أغنس الحلو
في ظل الصراعات المتزايدة في العالم يزداد الكلام عن الانفاق العسكري بحيث تحاول الكثير من الدول أن تدعم ترسانتها العسكرية لتلعب دورا أساسيا في توازن القوى العالمي. وتسعى دول عدة إلى [*]تخصيص حصة كبيرة من الموازنة العامة إلى الموازنة العسكرية. فالانفاق العسكري الذي يتوزع على القوات البرية والبحرية والجوية وعلى رواتب العسكريين في الخدمة والمتقاعدين وحتى لمنظمات الابحاث والمعلومات، لم يعد مجرد رقم يوضع في جدول إقتصادي، بل أصبح ما يرسم المعادلات العالمية. وفي حين تقارن بعض الاحصاءات كمية الانفاق العسكري بين الدول تقارن إحصائات أخرى نسبة الانفاق العسكري إلى الدخل القومي الوطني كجزء من خطة استراتيجية عسكرية تنموية متكاملة.
في نيسان 2015 نشر موقع sipri السويسري لأبحاث السلام الدولي تقريرا صحفيا حول آخر النفقات العسكرية لدول العالم. يقدر التقرير الانفاق العسكري العالمي ككل ب 1.8 تريليون دولار في سنة 2014، أي انخفاضه 0.4% (شبه استقرار) منذ عام 2013. وأتى هذا الاستقرار بعد هبوط الانفاق في السنوات الثلاثة الاخيرة. وفي حين شهدت بعض الدول تراجعا في الانفاق العسكري مثل الولايات المتحدة الاميركية ودول أوروبا الغربية عمدت بعض الدول مثل الشرق الاوسط وآسيا وأوقيانيا وأوروبا الشرقية وأفريقيا لزيادة هذا الانفاق.
وفي تفصيل ذلك فقد انخفض الانفاق العسكري الاميركي بنسبة 6.5% كجزء من تدابير الخفض المستمر لعجز الموازنة ولكن لا يزال الانفاق العسكري الاميركي أعلى بنسبة 45% من سنة 2001 التي شكّلت نقطة فصل في الموازنة العسكرية الاميركية منذ أحداث 11 أيلول. كما انخفض انفاق البرازيل وفنزويلا العسكري بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تمران بها. هذا وخفّضت اندونيسيا انفاقها العسكري بنسبة 10%. وعلى الرغم من دعوة حلف شمال الاطلسي لدوله الاعضاء لرصد موازنة عسكرية توازي 2% من الناتج المحلي الاجمالي، فقد خفّضت الدول الخمس الكبرى، فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، إنفاقها العسكري. ولكن ألمانيا أعلنت نيتها زيادة الانفاق في الاجل المتوسط.
أما بالنسبة للدول التي شهدت ارتفاعا ملحوظا في ميزاتيها المخصصة للاغراض العسكرية فتتصدّر كل من المملكة العربية السعودية والصين وروسيا اللائحة. فمع زيادة الانفاق العسكري السعودي 17% والتي حولتها إلى أكثر دولة ترفع انفاقها العسكري عالميا، ارتفع الانفاق العسكري في الصين 6.7% وفي روسيا 5% وفي كوريا الجنوبية 2.3% وفي الهند 1.8% وفيتنام 9.6%. ويعزو الخبراء الارتفاع الكبير في انفاق فيتنام العسكري إلى النزاعات الاقليمية مع الصين حول بحر الصين الجنوبي. وقد دفع الصراع الاوكراني العديد من الدول الاوروبية لزيادة انفاقها العسكري مثل روسيا والدول في أوروبا الوسطى ودول البلطيق. كما ارتفع انفاق المكسيك 11% بسبب سعي الدولة لمحاربة تجار المخدرات. أما بالنسبة للجزائر وأنغولا أكبر المنتجين للنفط الافريقي فقد ارتفع انفاقهما العسكري بنسبة 12.2% و6.77% على التوالي.
یقول مدیر برنامج الإنفاق العسكري في سیبري دكتور سام بیرلوـ فریمان: " لم یتغیر مجموع الإنفاق العسكري العالمي بصورة ملحوظة وتستمر رؤیة بعض المناطق مثل الشرق الأوسط وعدد من دول أفریقیا المتمثلة بالتكدیس السریع الذي یثقل على العدید من الاقتصادات على نحو متزاید. تعرض هذه الزیادات جزئیاً الأوضاع الأمنیة المتدهورة ولكن في كثیر من الحالات هي نتاج الفساد والمصالح الشخصیة والحكومة الاستبدادیة."
ومن غير الواضح، حتى الآن، تأثير الانخفاض في أسعار النفط في أواخر عام ٢٠١٤ على الإنفاق العسكري في العدید من الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وأجزاء أفریقیا وآسیا وروسیا وغیرها. وفي حين أنشأت بعض تلك الدول المنتجة للنفط مثل المملكة العربیة السعودیة احتیاطیا ماليا كبيرا يسمح لها بالصمود في ظل الاسعار المنخفضة، لن يمر انخفاض أسعار النفط مرور الكرام على الدول المنتجة مثل روسيا التي بدأت تخفض إنفاقها العسكري للعام الجاري.
وفي حين تعدد الاسباب لتغير الإنفاق العسكري للدولة بين ازدياد النزاعات في الدولة والدول المجاورة وبين تلاعب أسعار النفط العالمي وبين الابتكارات الحديثة في الاسلحة والمعدات والآليات الحربية تبقى هذه الميزانية تابعة لسياسة الدولة الاستراتيجية.
والجدير بالذكر في هذه الصورة أن الولايات المتحدة تستحوذ على أكثر من ثلث الانفاق العسكري في العالم ومن بعدها الصين التي تنفق 12% من الانفاق العسكري العالمي ومن بعدها روسيا ب 4.5% ومباشرة تأتي بعدها المملكة العربية السعودية بانفاق 4.5% من الانفاق العسكري العالمي. ولعل وجود السعودية في المرتبة الرابعة عالميا يؤكد على تقدم دول الشرق الاوسط في الخارطة العسكرية العالمية. وهنا لا يمكننا تجاهل ثلث الانفاق العسكري العالمي من قبل الولايات المتحدة الاميركية.
وقد نشر في دراسة لانطوني كوردسمان الخبير في الامن القومي والمدير في مركز الابحاث الاستراتيجية والدولية CSIS. معلومات معلومات تؤكد على انخفاض الانفاق العسكري الاميركي بين عامي 2014 و 2015 بحيث تركز الانخفاض الكبير على قطاعات الطيران والقوات البرية وأنظمة الصواريخ الدفاعية والذخائر، ودعم المهام.
ولكن أين بدأت النزعة لزيادة الانفاق العسكري العالمي؟
إن هذه النزعة ليست وليدة اللحظة بل إنها قديمة وحتى قبل الحروب العالمية. ولكن لضيق المساحة سنكتفي بتاريخ التسلح الحديث والموازنات المرصودة لهذا التسلح وتداعياتها.
ويثبت هذا الرسم البياني ارتفاع الانفاق العسكري في الآونة الأخيرة منذ عام 1999 حتى 2014. فمع انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين عام 1989 ومع تفكك اتحاد "وارسو"، الذي كان يجمع القدرات العسكرية لدول الإتحاد السوفييتي السابق، بقي حلف الشمال الأطلسي "الناتو" ليشكل الاحادية الدولية. وبالتالي لم يعد هناك داع لخلفية عسكرية كبرى للحفاظ على توازن القوى، مما أدى إلى انخفاض التسلح وبالتالي انخفاض الانفاق العسكري. ولكن مع تسلم بوتين الحكم في عام 2000 وسعيه إلى تعزيز قوى روسيا العسكرية عادت دول حلف الناتو للتكلّف على الانفاق العسكري لكي يحافظ على توازن القوى على ما هو عليه. وخاصة بعد أن حافظت روسيا على عنصرين أساسيين أبقياها في موقع قوي في ميزان القوة: أولا حفاظها على القنبلة النووية وثانيا عضويتها الدائمة في مجلس الامن الدولي الذي يمنحها حق استخدام النقض "الفيتو" على أي قرار تعارضه. وهنا كان لا بد للدول في الحلف المقابل الحفاظ على مكانتها العسكرية مما زاد الانفاق العسكري منذ عام 1989 حتى عام 2011. أما في الاعوام 2011 و 2012 و 2013 فنلاحظ انخفاضا ضئيلا في الانفاق العسكري. ولعل السبب يعزى إلى العجز في الموازنات وسياسيات التقشف المعتمدة في عديد من الدول الاوروبية وحتى تخفيض الانفاق في الولايات المتحدة الاميركية.
الانفاق النووي العالمي:
لعل المفارقة الابرز في العالم اليوم هي توجه الدول الكبرى المنتجة للاسلحة النووية إلى تخفيض الانفاق على الاسلحة النووية في ظل العمل على تحديث وتطوير السلاح النووي بحد ذاته بحيث تزداد فعاليته. قد يكون السبب هو الإتجاه إلى إرساء ثقافة السلام. كما نشهد اليوم انخفاضا ملحوظا في عدد الموظفين المختصين في عمليات السلام في جميع أنحاء العالم بالرغم من الارتفاع في عدد عمليات السلام.
وبحسب تقرير صدر في 15 حزيران /يونيو 2015 عن معهد ستوكهولم لابحاث السلام الدولي sipri، وفي بدایة عام 2015، استحوذت تسع دول على حوالي 150850 سلاحا نوويا وهي: الولایات المتحدة الاميركية وروسیا والمملكة المتحدة وفرنسا والصین والهند وباكستان وإسرائیل وجمهورية كوریا الدیمقراطیة الشعبیة (أو كوریا الشمالیة). من هذه الاسلحة 40300 سلاحا استعملوا في القوات التشغيلية ومنها 10800 في حالة تأهب قصوى. وقد تراجع عدد الرؤوس الحربية النووية في العالم بسبب تخفيض الولايات المتحدة الاميركية وروسيا لكيمات الاسلحة في ترسانتها النووية. وفي هذا الوقت تجدد الدولتان وتحدثان باستمرار انظمتها النووية بتكاليف عالية. أما بالنسبة للدول الاخرى فهناك دول تزيد إنفاقها العسكري النووي ولو بنسبة صغيرة منها الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية. یقول الباحث في الشؤون النووية في معهد سیبري شانون كیل: "على الرغم من الاهتمام الدولي لنزع السلاح النووي لن توقف الدول المالكة للأسلحة النوویة برامج تحدیث الترسانات النوویة في المستقبل المنظور."
يبرز هذا الجدول كمية الرؤوس الحربية النووية في عدد من الدول المنتجة لها. ولعل الانخفاض الحاصل بين 2014 و 2015 ليس وليد لحظتها بل بدأ منذ عام 2010.
وتشهد معظم الدول المنتجة للسلاح النووي في العالم انخفاضا في إنفاقها على هذه السلاح منذ عام 2010. وهذا الهبوط كان في أوجه بين 2010 و2011 وخاصة في أميركا وروسيا. أما بالنسبة لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل فقد حافظت على انفاق نووي مستقر. اما الصين وباكستان والهند فقد زادت انفاقها النووي.
عندما يبدأ الكلام عن الاسلحة النووية لا يمكن تجاهل عمليات السلام واتفاقيات عدم انتشار الاسلحة النووية. ففي عام 2014 كان هناك 62 عملية سلام أي أكثر بثلاث عمليات عن عام 2013. ولكن هذا الارتفاع في عدد العمليات لم يرافقه ارتفاعا في عدد الموظفين المنتشرين في عمليات السلام بل على العكس فقد انخفض عددهم بنسبة 20% بين 2013 و 2014 ليصبح 162052. ويتضمن هذا العدد قوات المساعدة الدولية لارساء الامن. وتجدر الاشارة أن القارة الافريقية تستضيف معظم عمليات السلام وأكثر عدد من الموظفين مقارنة بجميع المناطق الاخرى. في عام 2014 انطلقت 7 عمليات حفظ سلام جديدة 4 منها في أفريقيا. أما الثلاث بعثات الاخرى فكانت استجابة للصراعات في أوكرانيا.
ویقول المدیر للبحث عن عملیات السلام في سیبري دكتور جایر فن در لین: "على الرغم من جمیع الإنتقادات والتشاؤم كانت عملیات السلام ناجحة بشكل رائع. یستثمر المجتمع الدولي فيها على نحو متزاید لانها تبقى الأداة الجدیدة والمباحة لإدارة الأزمات في كثیر من الصراعات."
بين اليوم وغدا: الانفاق العسكري والنووي
نرى اليوم انخفاضا في الانفاق العسكري بدأ منذ عام 2011 ويستمر حتى يومنا هذا. وبما ان النزاعات والصراعات المحلية والاقليمية وحتى الدولية تتزايد فليس الحراك الشعبي العربي هو وحده ما يؤكد تزايد النزاعات عالميا فإن أوضاع أوكرانيا وكوريا الشمالية وغيرها تشهد إحتداما في شوارعها، يتوقع الخبراء ارتفاع الانفاق العسكري عالميا في السنوات المقبلة.
ويقول رياض قهوجي المحلل الاستراتيجي، والرئيس التنفيذي لشركة إنيغما INEGMA، "إن ازدياد التوتر العالمي يشير إلى ازدياد في التسلح، فبحسب سياسات الدول والوضع الاستراتيجي والجيوسياسي تشعر العديد من الدول بالتهديد لذلك تلجأ إلى التسلح. اليوم بعد أوضاع أوكرانيا وكوريا الشمالية دخلنا في أجواء الحرب الباردة. أما الشرق الاوسط بدوره كان ولا يزال لاعبا أساسيا في التسلح الدولي وما وجود المملكة العربية السعودية في المرتبة الرابعة عالميا من حيث الانفاق العسكري سوى خير دليل على ذلك. وقد تكون سياسة تصدير الثورة الايرانية وتدخلها في دول الجوار وتطويرها لبرنامجها النووي عوامل التهديد الاساسي الذي دفع الدول العربية مثل الامارات والسعودية إلى رفع سقف انفاقها العسكري. وفي ظل عالم يعيش سباق التسلح أرى أن الاتجاه اليوم هو نحو ازدياد الانفاق فلا يوجد أي مؤشر لسقوط النزاعات."
التسلح للحروب العسكرية أو النفسية؟
يحكى أن نبوخذ نصّر ملك الكلدان في القرن الخامس قبل الميلاد كان يقوم باستعراضات عسكرية كبيرة قبل شنه أي حرب على الدول المجاورة. وكان يستخدم تلك الاستعراضات كجزء من حرب نفسية ليستعرض قواه العسكرية أمام خصومه. فعندما يصل للحرب تكون معنويات خصومه متقهقرة وعندها يحتلهم بسهولة حتى لو كانت قواته العسكرية أقل بكثير مما يظهر. في عصرنا الحالي تحوّلت الاستعراضات العسكرية إلى كمية الاسلحة النووية والاسلحة المتطورة التي تملكها كل دولة. ولكن إذا كانت هذه الكميات الكبيرة معدّة للاستخدام العسكري أو لاخذ موقع في ميزان القوى العالمي فهو سؤال جدير بالمعالجة.