رياض قهوجي
تتجه روسيا نحو تسريع وتيرة الحرب في أوكرانيا بهدف إعلان النصر، بما توفر من مكتسبات والمحافظة عليها عبر إجراء استفتاءات وهمية في الأراضي المحتلة لضمها ونشر مئات آلاف الجنود فيها لإخضاعها. فالنزيف الأوكراني سيستمر والتراجع ممنوع، وبالتالي فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيواجه خيارات صعبة وقرارات مصيرية خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة. فبعدما كان قبل سبعة أشهر يتوقع سقوط كييف في ثلاثة أيام، ويصر على أن قوة من مئة وخمسين ألف جندي ستكون كافية لتحقيق أهدافه في السيطرة على قرار أوكرانيا وضم أجزاء كبيرة منها، بات اليوم يحاول تبرير هزائمه ويعود عن قراره بتجنب استخدام المجندين واستدعاء الاحتياط، ويواجه شبه انتفاضة شعبية في مناطق عدة تعارض الحرب من أساسها.
استدعاء 300 ألف من الاحتياط يعني إدخال الحرب إلى كل بيت في روسيا، ووضع ضغوط إضافية على الخزينة الروسية التي تعاني أصلاً تبعات العقوبات الاقتصادية الغربية عليها. هؤلاء الجنود بحاجة إلى الكثير من الأسلحة والقدرات اللوجستية والأعتدة، في وقت تعاني القوات الروسية على الجبهة الأوكرانية مشكلات لوجستية ونقصاً في الدبابات والعربات القتالية الحديثة. فما بقي في مخازن الجيش الروسي هو دبابات من طراز تي-62 وربما تي-55 وناقلات جنود وعربات مصفحة هجومية تعود إلى ستينات القرن الماضي وسبعيناته، أي حقبة الاتحاد السوفياتي.
فالمصانع الروسية تعاني عجزاً واضحاً في توفير حاجات الجيش الروسي من الآليات والدبابات والمنظومات الحديثة وقطع الغيار الخاصة بها. وبسبب الضغط القوي على هذه الشركات لتوفير ما يلزم للجهد الحربي، فهي لن تستطيع أن تكمل تنفيذ عقود تسليح لدول أجنبية، ما سيؤدي إلى فسخ هذه العقود وانقطاع الأموال عن شركات الدفاع الروسية التي تحتاجها لتستمر في عمليات الأبحاث والتطوير لتحديث الترسانة العسكرية الروسية. ومع بداية فصل الخريف واقتراب هطول الأمطار والثلوج، فإن الفترة المتبقية لشن عمليات عسكرية كبيرة من دون التأثر بالعوامل الجوية باتت محدودة ولن تتعدى الشهر. وسيشهد فصل الشتاء عمليات عسكرية محدودة على الجبهات، ولكنه قد ينشط على شكل حرب عصابات تشنها القوات الأوكرانية داخل الأراضي التي يحتلها الروس. وفي الوقت الذي تدرّب روسيا قوات الاحتياط وتجهزها، ستستمر أوكرانيا في تسلم المزيد من الأسلحة من دول حلف الناتو وتدريب أعداد إضافية من الجنود عليها لتحقيق هدفها بامتلاك جيش من مليون جندي.
أخطر ما سيواجهه بوتين هو توسع التظاهرات وتحولها إلى انتفاضة على مستوى الاتحاد الروسي ضد الحرب. فهو حتى الآن تمكن من استخدام قدرات الدولة الإعلامية للترويج للعملية العسكرية الخاصة، كما تطلق عليها الحكومة الروسية. فبوتين سعى جاهداً منذ اليوم الأول لمنع الإعلام ومسؤوليه من الإشارة إلى ما يجري في أوكرانيا على أنها حرب، بل هي عملية محدودة لتحرير أراض روسية من النازيين الأوكران. وكان هناك العديد من الشباب ممن تأثروا بهذه الشعارات ودعموا الحرب. لكن هذا كان قبل أن يجد هذا الشباب اليوم نفسه ممنوعاً من السفر وعلى وشك أن يرسل إلى جبهات القتال. طبعاً، كل عائلة لديها شباب ممن تنطبق عليه مواصفات الاحتياط العسكري ستعيد النظر اليوم في موضوع دعم الحرب في أوكرانيا التي كلّفت حتى الآن، بحسب تقديرات أجهزة الاستخبارات العسكرية، مقتل وجرج بين 43000 و80000 جندي، مع ترجيح أن لا يقل عدد القتلى عن 25000 جندي وضابط. أي أن روسيا خسرت في سبعة أشهر أكثر مما خسرته في حربها في أفغانستان بين 1979 و1989، حيث وصل عدد القتلى إلى 15000 والجرحى إلى 35000.
كانت لحرب أفغانستان آثار كبيرة على الاتحاد السوفياتي، ولعبت دوراً كبيراً في أسباب انهياره نتيجة الاستنزاف المادي والبشري الذي حطم المعنويات العسكرية وقلب الرأي العام الداخلي ضد النظام. وهذا ما تجد موسكو نفسها أمامه اليوم، ويضع بوتين في موقف حرج يدفع به للتلويح مجدداً بالخيار النووي لإخافة الدول الأوروبية وإجبارها على وقف دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً. لكن جميع المراقبين يدركون أن استخدام الخيار النووي دونه صعوبات وله عواقب وخيمة على روسيا. فإن كان هدف أي هجوم بسلاح نووي تكتيكي جبهات القتال، فإن القوات والأراضي الروسية المحاذية ستتأثر حتماً بالإشعاعات النووية. كما أن استخدام أسلحة دمار شامل سيدفع بدول الناتو لإزالة الخطوط الحمر كافة عن نوعية الأسلحة التي ستقدمها لأوكرانيا حينها، والتي ستشمل صواريخ بالستية وجوالة بعيدة المدى، وربما تكنولوجيا لتصنيع أسلحة دمار شامل محلية. أما مهاجمة أي أراض لحلف الناتو بسلاح غير تقليدي فسيواجه بالمثل من أجل المحافظة على مصداقية الردع.
وعليه، فإن الخيار النووي ليس بالقرار السهل، ومن المرجح أن تكون سيئاته أكثر من حسناته بالنسبة إلى روسيا، الدولة التي تحتضن الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية وتقاتل اليوم أوكرانيا ذات الأكثرية الأرثوذكسية. وحتى إمكان افتعال حادث نووي عبر مهاجمة إحدى المحطات النووية الأوكرانية جنوب البلاد ستكون نتائجه كارثية أيضاً على بعض الأقاليم الروسية الحدودية. فالخيار النووي هو سلاح ذو حدين والقيادات الأوروبية والأوكرانية تدرك ذلك. يبقى هنا العامل النفسي للرئيس بوتين ومدى تأثيره في سلامة قراراته وهو في حالة خوف من الهزيمة في الحرب ونتائجها عليه. فلا أحد يمكن أن يتنبأ فعلاً بالخطوة التالية التي سيأخذها، كما لا يمكن أن يتنبأ أحد بحجم الاعتراض الداخلي وسرعة اتساعه وتبعاته على القيادات السياسية والعسكرية والأوليغارشية التي قد تجد أن الوقت بات مناسباً للتخلص من بوتين. فالساحة ستكون خلال الأسابيع المقبلة مفتوحة على جميع الاحتمالات من ناحية وضع النظام الروسي داخلياً.
ولا يمكن فصل الوضع العسكري المتأزم لروسيا عما يجري من اشتباكات حدودية بين بعض دول وسط آسيا التي تشكل الحدود المباشرة لروسيا وعمقها الاستراتيجي الأمني. فتجدد المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا واندلاع اشتباكات بين قرغيستان وطاجيكستان في أسبوع واحد قد لا يكون مجرد صدفة. وقد يكون مؤشراً إلى ما ستؤول إليه الأمور إذا ما طالت الحرب ووجدت روسيا نفسها مضطرة لحشد الجزء الأكبر من قواتها على الجبهة الأوكرانية. فموسكو هي من توفر الدعم العسكري لحماية أنظمة ديكتاتورية مؤيدة للكرملين في هذه الدول، وأي ضعف في نفوذها العسكري سيعرّض قادة هذه الدول لخطر الانقلابات. كما أن الوجود العسكري الروسي يمنع الاشتباك بين قوات هذه الدول التي لديها خلافات حدودية وعرقية مع بعضها بعضاً. فاستمرار الحرب الأوكرانية سيؤدي إلى فراغ أمني يفتح المجال لتدخلات خارجية تشعل الخلافات الحدودية بين هذه الدول أو تحرك قوى المعارضة الداخلية. وأميركا لن تتوانى عن انتهاز أي فرص لإيصال قادة مؤيدين لها في هذه الدول إلى سدة الحكم. ولا يمكن استثناء وضع القوات الروسية ومستقبلها في سوريا مما يجري من تطورات في موسكو وعلى جبهات القتال الأوكرانية. فكلما وهنت روسيا سيتأثر الوضع في سوريا وتفتح الساحة فيها على احتمالات جديدة.