ستعطي العملية البرية الحالية بمدينة غزة الفرصة لحماس لإظهار قوتها في عمليات الالتحام المباشر مع القوات الإسرائيلية. فهي تملك شبكة أنفاق داخل المدينة التي لم يغادرها نصف سكانها حتى الآن. كما أن تدمير أعداد كبيرة من المباني سيمكّن المقاتلين من نصب كمائن أكثر فعالية.
كتب رياض قهوجي في “النهار”:
تشن إسرائيل اليوم هجوماً برياً واسعاً لاحتلال مدينة غزة لتحقيق هدف أساسي وهو القضاء على حركة حماس، حسب الحكومة الإسرائيلية التي تعتبر أن سقوط المدينة سيؤدي لنهاية حركة المقاومة الإسلامية. لكن قيادات الجيش الإسرائيلي تشكك بإمكانية تحقيق هذا الهدف، إذ إنها تدرك أن حماس هي حركة عقائدية تتبنى أيديولوجيا إسلامية متشددة تمجد الشهادة والقتال حتى آخر رمق. وبما أن العناصر المقاتلة هي من أبناء قطاع غزة، فهذا يعني أن هذه العقيدة منتشرة بين العديد من سكانه، حتى من المدنيين. كما أن حماس موجودة في الضفة الغربية وخارج المناطق الفلسطينية المحتلة، وبالتالي، ليست محصورة في القطاع. وعليه، فإن احتلال مدينة غزة لن يؤدي بأي شكل للقضاء على حماس كتنظيم فلسطيني مقاوم.
لكن حماس تواجه اليوم معضلة تحمّل جزءاً كبيراً من مسؤولية النكبة التي تعرض لها سكان قطاع غزة، واستمرار الانقسام بالقيادة الفلسطينية الذي ألحق ضرراً بالغاً بالقضية. فهجوم السابع من أكتوبر 2023 خلّف خسائر في صفوف الإسرائيليين فاقت توقعات من خططوا له ونفذوه. والرد الإسرائيلي فاق توقعات جميع المسؤولين والمراقبين في المنطقة وخارجها. ولم تقم قيادة حماس بإعادة تقييم الوضع بعد الهجوم على قواعد غلاف غزة ومستعمراته، بل استمرت بمقارباتها وسياساتها وكأن شيئاً لم يتغير.
وبناءً على ما تكشّف خلال العامين الماضيين، يبدو أن قيادة حماس كانت تعوّل على شن إيران ومحور الممانعة هجوماً واسعاً مباشرة بعد 7 أكتوبر. فكان رد آية الله على خامنئي مفاجئاً وواضحاً لقيادة حماس حينها عندما أبلغهم بأن طهران لن تشن أي هجوم. كما أن قيادة “حزب الله” قررت الدعم المحدود عبر ضربات حدودية تعمدت عدم إلحاق أضرار كبيرة تجنباً لدخول حرب مع إسرائيل. لكن حكومة إسرائيل كانت قد اتخذت قرارها بالحرب الشاملة، وهو ما تلقفه الأمين العام لـ”حزب الله”، لكن متأخراً. وساهم سوء حسابات محور الممانعة في تفاقم الأمر، إذ إن حرب الإسناد والمشاغلة منحت حماس أملاً زائفاً بتراجع إسرائيل عن حربها والدخول باتفاق لإنهاء الحرب.
سعت حماس خلال العامين الأخيرين من الحرب والتفاوض إلى الخروج من هذه الأزمة بما يحافظ على وجودها المؤثر في غزة والساحة الفلسطينية. وكانت تأمل أن تعطيها ورقة الرهائن الإسرائيليين مركز قوة أكبر لفرض شروطها. لكن موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتشدد والمستعد للمخاطرة بأرواح الرهائن قوّض استراتيجية حماس. وما زاد الطين بلة كان سعي وزراء حكومة نتنياهو من اليمين الديني المتطرف لاستغلال الوضع لتدمير غزة بهدف ترحيل سكانها. كما بدأت الحكومة الإسرائيلية بخطوات مماثلة في الضفة الغربية حيث تقوم بتدمير منازل وأحياء بهدف رسم واقع جديد ينهي آمال قيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.

ستعطي العملية البرية الحالية في مدينة غزة الفرصة لحماس لإظهار قوتها في عمليات الالتحام المباشر مع القوات الإسرائيلية. فهي تملك شبكة أنفاق داخل المدينة التي لم يغادرها نصف سكانها حتى الآن. كما أن تدمير أعداد كبيرة من المباني سيمكّن المقاتلين من نصب كمائن أكثر فعالية. تتوقع قيادة الجيش الإسرائيلي سقوط خسائر أكثر من العادة بهذه العملية لأنها تهدف لبقاء القوات في المناطق التي تدخلها ولن تعمد للخروج فوراً كما فعلت في الماضي لحماية جنودها. وتعتمد إسرائيل استراتيجية الأرض المحروقة والتقدم البطيء لقواتها لتقليل الخسائر قدر المستطاع في صفوفها. وقامت بتفخيخ مجموعة من ناقلات الجند المصفحة القديمة بالمتفجرات وتزويدها بمنظومات تسيير عن بعد لاستخدامها بتدمير مبانِ سيتحصن فيها مقاتلو حماس. هذا التكتيك سيجنّب الجنود عمليات اقتحام لمبان محصنة تؤدي لسقوط عدد كبير منهم.
لقد تجهزت حماس لحرب شرسة مع إسرائيل، فحفرت الأنفاق وصنعت صواريخ ودربت مقاتلين. لكنها لم تحسب جيداً تأثير هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل وكيف سيستغل نتنياهو ووزراؤه الوضع لشن حرب تصفها إسرائيل بالوجودية. ونظراً لكون ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، فقواتها ستتمكن في نهاية المطاف من احتلال مدينة غزة، مخلفة دماراً هائلاً وضحايا بالآلاف. ولم يبق من قيادات الحركة الميدانية المعروفين سوى القليل. وإذا ما تمكنت إسرائيل من القضاء عليهم، فهذا سيبقي قيادات حماس في الخارج مطاردين من قبل إسرائيل يتحركون ضمن مساحة ضيقة جداً.
لا تواجه حماس اليوم حرباً وجودية، بل حرباً تنهي دورها كلاعب أساسي ومؤثر على الساحة الفلسطينية. لقد تم تدمير بنيتها التنظيمية الأمنية والبنية التحتية العسكرية في قطاع غزة، وما سيبقى لها هو عبارة عن مجموعات خلايا متفرقة، ستفقد فعاليتها مع الوقت. وستحمل الحركة لسنوات وزر ما لحق بالقطاع من دمار تسببت به نيران القوات الإسرائيلية، لا لأنها مارست حقها المشروع بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بل لتفردها بقرار القيادة الفلسطينية ولعدم إعطائها أولوية لمصالح سكان غزة وحياتهم، بل لعقيدتها وللمحور الإقليمي الذي ارتبطت به.
لا يزال مصير مستقبل القطاع بعد الحرب غير واضح على صعيد من سيحكمه ويديره ويشرف على إعادة إعماره. فلا تزال المفاوضات مستمرة حول السيناريوات المطروحة من جهات عدة. لكن الزخم الدولي الذي تقوده المملكة العربية السعودية وفرنسا لدعم حل الدولتين يلاقي نجاحاً كبيراً ويدفع بالمزيد من الدول الغربية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، برغم معارضة نتنياهو. فتوحش الحكومة الإسرائيلية وفظاعة ما ارتكبته من جرائم حرب وتطهير عرقي قد انعكسا سلباً عليها ودفعا بالمجتمع الدولي للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بدولة وإنهاء معاناته. وقد لا تولد الدولة غداً أو بعد سنة أو اثنتين، لكن مع وجود الأرض والشعب، فهي باتت واقعاً مكرساً من المجتمع الدولي سيتحقق مع الوقت، بوجود حماس أو عدمه، لكن حتماً بلا دور مؤثر للحركة. يبقى على السلطة الفلسطينية إعادة تكوين نفسها استعداداً لهذه المرحلة.