تواجه المؤسسة العسكرية اللبنانية تحدياً خطيراً وغير مسبوق، يتمثل بإمكانية فقدانها ثقة القوى الدولية والعربية المؤثرة، بعدما فشلت في تحقيق الهدف الأساسي، الذي كانت هذه القوى تأمل في تحقيقه، منذ لحظة وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وهو سحب السلاح من “حزب الله” والمجموعات الفلسطينية المسلّحة.
يعود ذلك إلى مجموعة عوامل، أهمّها، تردّد السلطة التنفيذية في مواجهة الحزب، بل تحوّلها إلى مسايرته وتبنّي مواقفه في ما يخصّ شروط تسليم السلاح. ويتساءل البعض إن كان رئيس الجمهورية تراجع عن التصميم الذي أبداه في بداية عهده، على حصر السلاح بيد الدولة، كما يتساءلون عن إمكانات فريق عمله في تقدير الموقف والمتغيرات في المنطقة، وجدية الرسائل المتتالية من واشنطن وعواصم القرار الأخرى بما يخصّ ضرورة إتمام حصرية السلاح قبل نهاية العام الجاري.
وفي مراجعة سريعة لأهمّ الأحداث التي شهدتها الساحتان اللبنانية والإقليمية، منذ بدء الهدنة الهشّة، التي شهدت غارات إسرائيلية يومية على كوادر وقواعد الحزب، يمكن استخلاص بعض النقاط المحورية:
أولاً، هدف تشكيل لجنة الميكانيزم هو تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بشكل يؤدي في نهاية الأمر إلى وقف الحرب، عبر نفي أسباب استمرارها؛ وذلك بسحب سلاح “حزب الله” من لبنان، وليس من جنوب الليطاني فقط. فحسب القوى الدولية، فإن بقاء القوات الإسرائيلية في النقاط الخمس على الشريط الحدودي، ومنع سكان أكثر من ثلاثين بلدة من إعادة إعمار منازلهم، هو نتيجة حرب بدأها “حزب الله” لإسناد “حماس” في غزة. وبالتالي، لم تعد القوى الدولية والعربية مؤيدة للتعايش الذي كان قائماً في لبنان بين الدولة ودويلة “حزب الله”، وهي تؤيد شرط إسرائيل بضرورة سحب السلاح كشرط لانسحاب إسرائيل من جنوبي لبنان، وإنهاء حالة الحرب بين البلدين، والعودة إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949.
ثانياً، لم يسلم “حزب الله” سلاحه في أيّ من المواقع في جنوب الليطاني أو في شماله، ولا تعاون بين الجيش اللبناني و”حزب الله” في هذا الموضوع، بخلاف ما تشيع أحياناً بعض أوساط السلطة التنفيذية. فكل ما جرى سحبه هو أسلحة وذخائر في مواقع أخلاها مقاتلو “حزب الله”، ووصل إليها الجيش اللبناني نتيجة معلومات استخباراتية تسلّمها من الميكانيزم. وبالرغم من أنه لم يعد هناك تنسيق علني بين الجيش والحزب في عمليات نقل الحزب لأسلحته شمال الليطاني، لا يبدو أن الجيش يأخذ أي إجراءات فعلية لمنع ذلك.
ثالثاً، فقد “حزب الله” وجوده العسكري الفاعل جنوب الليطاني نتيجة خسارته الحرب الأخيرة. كما أدى سقوط النظام السوري، بعد أسبوعين من وقف إطلاق النار في لبنان، إلى فقدان الحزب خطوط الإمداد الرئيسية من إيران. لكنه بالرغم من ذلك يسعى جاهداً لإعادة بناء قدراته العسكرية شمال الليطاني. ففترة الضعف التي مر بها بعد وقف إطلاق النار، والتي شهدت انتخاب رئيس للجمهورية، وتعيين رئيس وزراء معارض له، وتشكيل حكومة لا يملك فيها الثلث المعطل، دفعت العديد إلى الاعتقاد بأن دويلة “حزب الله” تزول. لكن الحزب، ما أن بعثت زيارات المسؤولين الإيرانيين إلى لبنان الروح فيه مجدداً، صعّد من موقفه في موضوع السلاح، ورفض قرارات الحكومة بهذا الخصوص، وعاد إلى ممارساته التي تهدف إلى إضعاف الدولة.
رابعاً، انقسام وتشرذم الدولة اللبنانية على صعيد المؤسسات، يفقد السلطة التنفيذية أدوات العمل من أجل تعزيز مكانة الدولة وإنهاء الدويلة. فالحزب وحليفته حركة “أمل”، يحتكران معظم مناصب الشيعة في مؤسسات الدولة كافة، وهذا يمكن الدويلة من الاستفادة من مقدرات الدولة للبقاء والاستقواء على المجموعات الأخرى. كذلك تقلل الخلافات، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة – رغم وحدة الأهداف الكبرى – من فاعلية الحكومة. لذلك، تأخذ الحكومة قرارات مهمة، إنما لا تستطيع تنفيذها كما شهدنا في أكثر من مناسبة، وأهمّها جمع السلاح غير الشرعي، وأبسطها منع تجمّع الحزب قرب صخرة الروشة.
خامساً، وصول أحمد الشرع إلى السلطة في سوريا، بعد إسقاط نظام الأسد، قلب الموازين بشكل فاق توقعات القوى السياسية اللبنانية. فمعظم هذه القوى توقعت انهيار الإدارة السورية الجديدة، وتقسيم سوريا طائفياً، وعودة النفوذ الإيراني. وبالرغم من تنامي الدعم الدولي للسلطات السورية الجديدة ورفع العقوبات عنها تمهيداً لتدفق الأموال والاستثمارات إليها، لا يزال هناك من يراهن في لبنان على عكس ذلك، ويتصرّف ويخطّط وكأن شيئاً لم يتغيّر. وانضم الشرع اليوم إلى التحالف الدولي ضد “داعش” والمجموعات التي تصنفها أميركا إرهابية.
بناء على ما تقدّم، فإن لبنان، وبعد عام من وقف إطلاق النار، ما زال يعاني من ضعف الدولة واستقواء الدويلة وفقدان السيادة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي ورفض الحزب تسليم سلاحه. واليوم، تواجه أهم وآخر مؤسسة تحظى باحترام المجتمع الدولي، أي الجيش اللبناني، إمكانية خسارة الدعم بسبب فقدان السلطة التنفيذية للرؤية السياسية الواضحة، وللحزم في عملها بشكل موحد لتنفيذ قراراتها. وقد يتطور الموقف الأميركي من إلغاء زيارة قائد الجيش إلى وقف المساعدات، ومنها دعم الرواتب، وإلغاء مؤتمر دعم الجيش. وهذا قد يعطي إسرائيل الذريعة لاستهداف الجيش اللبناني في حربها المقبلة على لبنان، والتي يكثر الحديث عنها.
وحسب مصادر غربية، فإن دعم مؤسسة الجيش كان سابقاً لتمكينه من محاربة الإرهاب وللحفاظ على مؤسسة تكون ركيزة انطلاق لتحرير الدولة من الدويلة يوماً ماً. واليوم، بعد حرب الإسناد وهزيمة محور الممانعة، اتخذ القرار الدولي بإنهاء “حزب الله” وتعزيز مكانة الدولة اللبنانية، ووضعت الآمال على الجيش لتنفيذ ذلك. وأضافت بأن قادة الجيش السابقين لطالما تحدثوا بأنهم يفتقرون إلى القرار السياسي والقدرات العسكرية لفرض سلطة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية. واليوم، وبعدما ضعف “حزب الله”، وقررت الحكومة سحب سلاح المقاومة، يمتنع الجيش عن ذلك.
عليه، تتساءل جهات دولية: ما الهدف من دعم الجيش اللبناني إن كانت السلطات اللبنانية ترفض استخدامه بحزم لسحب السلاح غير الشرعي؟ وإن كان الجيش غير قادر على ذلك، فهل يجب السماح لإسرائيل باستكمال تنفيذ هذه المهمة بحرب جديدة؟
