رياض قهوجي*
أدى فشل السياسة الأميركية في التعامل مع إيران بشكل عام ، ومع سياسة إيران النووية بشكل خاص، إلى تقهقر موقف واشنطن الرادع إلى حدّ جعل[*] طهران لا تكترث بتهديدات المسؤولين الأميركيين فحسب، بل جعلها تتجرأ على تحدي القوة العظمى الرئيسية في العالم وتدعوها للقتال. فسياسة وضع "الخطوط الحمر" لطهران أثبتت فشلها الذريع. ومنذ بدء المواجهة السياسية بين الطرفين في العام 2004 حول برنامج إيران النووي، دأبت الولايات المتحدة الأميركية على وضع العديد من "الخطوط الحمر" التي قامت إيران بتخطيها جميعاً، وقد اقتصرت ردود فعل واشنطن على ذلك بالدفع بأربع قرارات من مجلس الأمن الدولي تفرض عقوبات على إيران. ولتاريخه لم تفلح العقوبات الدولية في كبح جماح البرنامج النووي الإيراني.
وقد صرح أحد المسؤولين الرسميين الإيرانيين، خلال مؤتمر خاص عقد حديثاً في مدينة أوروبية، بالقول:" لقد تخطينا كافة الخطوط الحمر ولم تأت الولايات المتحدة الأميركية بأية ردود فعل، ولا أظن أن باستطاعتها أن تقوم بأي شيء في هذه المرحلة بالذات. فقد قالوا ( أي الولايات المتحدة والغرب) بأن تخصيب اليورانيوم خط أحمر وقد تخطينا ذلك، وقالوا إن التخصيب بنسبة 20 بالمائة خط أحمر وتخطينا ذلك." وأضاف هذا المسؤول قائلاً:" والآن ينذر وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا بأن إقفال مضيق هرمز هو "خط أحمر آخر بالنسبة لنا وبأننا سوف نرد عليهم". كما أضاف: "إن الخط الأحمر الذي وضعناه لإيران هو ألا تطور سلاحاً نووياً."
والسؤال هنا هو:" إلى أي مدى تأخذ طهران التهديدات الأميركية بجدية بعد أن استطاعت أن تجتاز بنجاح العديد من الخطوط الحمر، ونفذت بدون عقاب من قبل واشنطن؟. وإذا ما قمنا بإضافة كل ذلك إلى النبرة الخطابية الإيرانية المرتفعة وقيام إيران بتدعيم قدراتها العسكرية، فيمكننا أن نجزم بأن الموقف الأميركي الرادع بالنسبة لإيران قد أصابه التآكل والاضمحلال بشكل ذريع.
فالمسؤولون والمحللون الإيرانيون في خطبهم ومقالاتهم يرون انسحاب الولايات المتحدة من العراق على انه هزيمة، وعدم قدرتها على التحكم بالأوضاع في أفغانستان على أنه إخفاق. الإيرانيون وحلفاؤهم في لبنان من حزب الله يعتبرون أن الحرب الإسرائيلية في صيف 2006 كانت نتيجتها هزيمة نكراء لإسرائيل. وبالتالي، فإن المسؤولين في حزب الله يعتبرون بشكل جدي أن إسرائيل، شأنها شأن راعيها وحليفها الأميركي، قد فقدت قدرتها على الردع. فقد أصبح قادة حزب الله يتكلمون علناً عن قيامهم بتدعيم قدراتهم العسكرية، وعن جهوزيتهم على التغلب على إسرائيل في أي وقت من الأوقات. فهم يؤمنون أن قدراتهم المتنامية هي التي تردع إسرائيل وتمنعها من مهاجمتهم أو مهاجمة الأراضي اللبنانية. والعمليات التي قامت بها واشنطن خلال العامين المنصرمين تدعم هذا الاعتقاد الذي يؤمن به العديد من القادة في حزب الله وإيران والذي يجزم بأن الإدارة الأميركية ضعيفة، ولا ترغب في الدخول في مواجهات عسكرية، وقد تكون على وشك الانسحاب. فالأحدات والمؤشرات التالية تظهر الموقف المتداعي للولايات المتحدة:
- نجاح حزب الله في اختراق خلايا التجسس الإسرائيلية وكشف عملاء وكالة الاستخبارات الأميركية في لبنان، الأمر الذي دعى هذه الوكالة إلى تفكيك عملياتها في لبنان. وقد تبجح حزب الله بهذا الإنجاز واعتبره مؤشراً آخر على تداعي القوى الأميركية.
- خسارة الولايات المتحدة لطائرة عالية التقنية من طراز سانتينيل Sentinel دون طيار، والقرار المزعوم الذي يدعي أن البيت الأبيض قد وضع فيتو على القيام بعملية عسكرية لإستردادها، إعتبره الإيرانيون والمسؤولون في حزب الله على انه من علامات تنامي قدرات طهران ومؤشرات عن ضعف أميركي.
- نجاح إيران في متابعة برنامجها النووي، غير مكترثة بالإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية التي يتخذها الغرب، يعتبره العديد من الإيرانيين شهادة على نجاح سياستهم وعلى فشل أميركا.
- بالرغم من اكتشاف القوات العسكرية الأميركية لأسلحة إيرانية المصدر في أيدي الثوار في العراق وأفغانستان، لم تقدم واشنطن على اتخاذ أية إجراءات حيال ذلك. وهذا في نهاية المطاف، بحسب ما يقوله العديد من المراقبين، قد جعل الحكومة الإيرانية أكثر جرأة.
- العديد من البحارة الأميركيين والغربيين ومن ضباط البحرية العاملين في الخليج العربي يتكلمون في جلساتهم الخاصة عن العديد من الإستفزازات التي تقوم بها الزوارق الإيرانية والتي يتم تجاهلها والتي لا تذكر في تقارير الإدارة الأميركية. وقد وصلت تلك الاستفزازات إلى مستوى دعا بعض المسؤولين الأميركيين إلى الإيعاز بشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام إلى وضع خط هاتفي ساخن بين القوات الأميركية وبين القوات البحرية الإيرانية لتلافي الأحداث الكبرى التي قد تسهم على التصعيد للحرب. لم تلق تلك الفكرة إي تجاوب، ولكنها اعتبرت من قبل العديد من المراقبين على أنها مؤشر جديد لتخاذل الولايات المتحدة، ومحاولتها تجنب المواجهة مع إيران- وهذا مؤشر إضافي على ضعفها.
لن يستغرق وقت طويل لأي محلل يحضر مؤتمر يتضمن إيرانيين أو حتى خبراء أو مسؤولين عرب لكي يتحقق من أن الإدارة الأميركية تعتبر واهنة وغير حاسمة في اتخاذ القرارات. وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن لمثل هذه الإدارة أن تؤخذ على محمل الجد من قبل إيران عندما توجه تهديدات مبطنة للجوء إلى الخيار العسكري لإيقاف البرنامج النووي الإيراني. فالأزمة المالية العالمية تعتبر من قبل الإيرانيين عاملاً إضافياً يجعل كلام الولايات المتحدة عن الحرب غير مجدي وعديم الفائدة. فبالنسبة للعديد من المسؤولين في الخليج العربي الذين ُيعدّون من حلفاء أميركا في المنطقة، تعتبر أميركا اليوم غير أميركا التي كانت منذ أقل من 20 عاماً، عندما لم تتجرأ إيران أبداً على التهديد بإقفال مضيق هرمز، ووقفت على الحياد دون أن تقوم بأية حركة تاركة الولايات المتحدة تجتاح أفغانستان المتواجدة على حدودها الشرقية، ولاحقاً العراق المتواجدة على حدودها الغربية . يبدو أن التحول التام والكلي للسياسة الخارجية الأميركية من النمط الهجومي إلى النمط الدفاعي قد أدى إلى تقويض الموقع الرادع للولايات المتخدة بشدة. ومن الصعب على بلدان العالم الثالث أن ترى أو أن تفهم كيف يمكن جعل قوة عالمية عظمى تُغلب على أمرها فتقف عاجزة أمام قوة إقليمية من العالم الثالث.
المسألة الأهم هنا هي فهم عقلانية وسلوك الإيرانيين. وكيف يرون ويفسرون تراخي وتقاعس الولايات المتحدة وعدم قيامها بمتابعة مسألة تطبيق العقوبات المتعلقة بالخطوط الحمر. ولا بد أن المراقبين المستقلين الموضوعيين يرون الفارق الكبير في موازين القوى لصالح الولايات المتحدة، ولكن هل يرى الزعماء الإيرانيون النافذون الرؤية نفسها؟ العديد من الزعماء في حزب الله ومن المسؤولين الإيرانيين يتحدثون عن فعالية الحرب غير المتكافئة ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة. ولكن هل يعتقدون أن بإمكانهم أن يكسبوا الحرب ضد أي منهما أو كلاهما بالإعتماد على تلك القدرات غير المكافئة؟
الخدع والتهديدات الفارغة ليس لها تأثير على الإيرانيين، وقد تسببت فقط بتدهور المواقف الأميركية الرادعة. فمعرفة نوايا الخصم تعتبر دائما من أصعب مهام محللي الاستخبارات وصناع القرار. في حين أن الطبيعة الغامضة للنظام الإيراني جعلت من الصعب على الغربيين محاولة معرفة نواياه، بينما سهلت الطبيعة الشفافة للديموقراطيات الغربية على الإيرانيين معرفة نوايا واشنطن وحلفائها. هذه العوامل عززت الموقف الإيراني الرادع وأضعفت موقف أميركا. وقد أثار هذا الوضع القلق في أوساط العديد من حلفاء أميركا في المنطقة الذين يعتمدون عليها لحمايتهم من العدوان الأجنبي( الإيراني). وقد صرح مسؤول في الخليج في حديث خاص بالقول:" إذا كانت إيران تتصرف بطريقة جريئة وهي لم تصبح قوة نووية بعد، علينا فقط أن نتخيل كيف سوف تتصرف عندما تمتلك بالفعل أسلحة نووية."
* الرئيس التنفيذي لمؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري – إينجما