رياض قهوجي*
الهجمات الإرهابية المرتكبة من قبل المتطرفين العنيفين الذين يتعهدون بالولاء لما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ضد أهداف عديدة[*] ومختلفة في تلك المنطقة، أثارت المخاوف حول وضع المجتمعات الإسلامية في أوروبا، خاصة في الوقت الذي يتدفق فيه ما يقارب مليون لاجىء من دول كسوريا والعراق إلى جميع أنحاء أوروبا. ولقد كان أداء أحزاب اليمين المتطرف في الإنتخابات الأخيرة جيداً، كما هو الحال في فرنسا خاصة وأن ردود الرأي العام في أعقاب هجمات باريس تشير إلى مدى تأثير أحداث منطقة الشرق الأوسط، وبشكل متزايد، على أمن أوروبا وسياساتها المحلية.
بالنسبة للعديد من المحللين، تعتبر الإنتخابات الفرنسية مجرّد بداية التغيير، كما يتوقع الكثيرون أن يحقق اليمين المتطرف والأحزاب القومية أداءاً جيداً في الإنتخابات المقبلة في جميع أنحاء أوروبا، مع احتمال إعادة تحديد نهج الاتحاد الأوروبي (EU) لموضوع الهجرة بشكل عام، وعلى المجتمعات المسلمة بشكل خاص. وقد يكون للنشاط اليميني والتسييس في الدول الأوروبية المتأثرة بظاهرة الإرهاب أو حتى بتدفق اللاجئين، عواقب على المدى الطويل، كما يمكن أن يؤديان إلى اضطرابات اجتماعية في حال استهدفت المجتمعات الإسلامية بأعمال عنف – وقد سجلت علامات منها- بالإضافة إلى تمهيد الطريق للاضطرابات المدنية والتنافر بين الطوائف.
من المحتمل أن تسلّط الحالة الاجتماعية- السياسية الناشئة في أوروبا الضوء على مشكلة الهجرة كما تحدّي المجتمعات الإسلامية في آن واحد. لقد ناقش زعماء غربيون لبعض الوقت أفضل نهج لمعالجة العدد المتزايد من القضايا المحلية للتطرف العنيف من قبل المسلمين الذين ولدوا ونشأوا في الغرب. وكان من المعتقد دوماً أن المتطرفين المسلمين عادة ما يأتون من الدول الإسلامية التي تعاني مجتمعاتها من الاضطرابات وغالباً القهر والأمية والفقر.
ومع ذلك، لا تتمتع المجتمعات الإسلامية في الغرب بقيادات دينية واضحة ومحددة، كما أنها أصبحت عرضة لتأثير العناصر الخارجية التي تقيدها بأفكار مضللة أو وعود كاذبة لخدمة أجنداتها الخاصة. هناك شعور متزايد بأن التعددية الثقافية فشلت، وتعتبر قضية الأمن القومي المتنامية، حيث تشعر المجتمعات الإسلامية بالقلق، نتيجة لذلك. إن التحدي المتمثل بدمج المجتمعات الإسلامية اجتماعياً في ثقافة واسعة النطاق وتشكيل معارضة فعالة ضد التعصب والتطرف العنيف أصبح أكثر إلحاحاً.
إذا نظرنا الى المجتمعات الإسلامية في الغرب ككل، يتّضح لنا أن الطريقة التي يتم فيها تربية الشباب المسلمين وتعليمهم – في المنزل والمدرسة – قد ساهمت في فشل المنهجية التي بدورها خلقت فرصاً لجماعات كـ”داعش” والقاعدة لتتمكن من نشر أفكارها ورسائلها. تتكون المجتمعات الإسلامية في الغرب بشكل رئيس من الأفراد وأبنائهم الذي وصلوا كمهاجرين واستقروا أساساً في أحياء الطبقات الوسطى والفقيرة، وغالباً ما يشعرون بأمان أكبر في المجتمعات “الخاصة بهم” والتي “تشبههم” والتي أصبحت، على نحو فعّال، مجتمعات مغلقة ذات الفرص الضئيلة للتفاعل الخارجي.
وبالنسبة لمهاجري الجيل الأول، إن التكامل الثقافي والتعليمي جاء بالطريقة الصعبة مع تفاعلات الحياة اليومية، خاصة في العمل والمكاتب والمصانع والمحلات التجارية، وأثناء التنقل؛ فعدد قليل منهم استطاع التكيّف بسرعة، أما العدد الأكبر فشعر بالإقصاء الإجتماعي. وفيما يخص الجيل الثاني واللاحق من المسلمين، لقد كان التكامل الثقافي في المقام الأول من خلال الالتحاق بالمدارس والتعليم، فنشأوا على فهم القواعد الإجتماعية والعادات والتقاليد بشكل مختلف.
ولكن، لم تشمل مناهج التعليم الغربي أي تعليم إسلامي، الأمر الذي أدى إلى خلق دور للآباء والشيوخ من مجتمع الجيل الأول بالأخص لملء هذا الفراغ. ولقد اعتمدت المجتمعات المسلمة المقيمة في الغرب عادة على وجهاء المجتمع المحلي لتوفير المتطلبات الدينية، كالتربية الإسلامية، وإدارة أماكن العبادة وتموين أنشطة الطقوس الدينية كالجنازات، والزواج، والحج إلى الأماكن المسلمة المقدسة.
في معظم الحالات، يفضل شيوخ المجتمع انتقاء رجال دين من بلدانهم، وغالباً ما يكون هناك بعض القرابة أو الاتصال الاجتماعي بينهم، للانتقال وتولي مناصب الأئمة في المساجد المبنيّة من قبل المجتمعات المحلية والتي تديرها أيضاً، أو المنظمات الإسلامية المدعومة عادة من قبل الحكومات الأجنبية أو الرعاة. ولم تتحقق أي سلطة عليا في البلد المضيف من أوراق اعتماد الأفراد الذين تم جلبهم من قبل المجتمعات المحلية قبل أو بعد أن أصبحوا أئمة المساجد. وليس من المستغرب أنه تم تولّي العديد من أئمة المساجد مناصبهم على الرغم من الوعي الثقافي المتدني إلى غير الموجود وعدم قدرتهم على التحدث بطلاقة والقراءة والكتابة بلغة بلدهم الجديد، في كثير من الأحيان.
يحصل الأئمة على احترام ديني كبير ومصداقية من قبل المسلمين الملتزمين، إلا أنهم قد يتمتعون بمفاهيم خاطئة عن الغرب ويمتلكون وجهة نظر عدائية تجاه الثقافة والتاريخ الغربي، الذي يلقى عليه اللوم غالباً على مشاكل العالم الإسلامي. ويتوقّع من هؤلاء الأئمة أنفسهم إعطاء دروس دينية وأسلوب حياة للمسلمين الملتزمين قائم على الإحترام المتبادل والعيش المشترك مع غير المسلمين والمجتمعات غير المألوفة لهم. وتكون النتيجة إذاً أعدادا هائلة غير مقبولة من أفراد المجتمع المسلم التي تعيش في قوقعة إزدراء للحضارة غير المسلمة وريبة من التحول الإجتماعي.
فالمسلمون الذين يزورون أقرباءهم وأصدقاءهم الذين ولدوا وترعرعوا في الدول الغربية يتفاجئون أحياناً بوجهات نظرهم المتحفظة والمتطرّفة أحياناً أخرى المختلفة عن المسلمين الذين يعيشون في معظم الدول المسلمة. ومن أبرز أسباب التحفظ الديني، الذي يُنظر إليه على أنه يوفر فرصاً وافرة لزحف التطرف بين المجتمعات المسلمة في الغرب، هو دور الأئمة الذين يفتقرون للوعي الثقافي وللمستويات المناسبة من العلم لمنح الإرشاد الديني. وفي معظم الأحيان، يعتبر الأئمة الحضارة الغربية معادلة لحضارة ضد الإسلام، يبتكرون نقاط خلاف إجتماعية وهمية، ويهندسون عزلة إجتماعية للمجتمعات المسلمة عن المجتمعات واسعة النطاق حيث ينمو التطرّف بسهولة أكبر.
أما بالنسبة للحل الذي يقوم على الدمج الثقافي والحضاري للمجتمعات المسلمة في الغرب، فهو يكمن عبر إنشاء منظمة إسلامية رسمية بإمكانها الاعتناء بالشؤون الدينية للمجتمعات المسلمة – وتتمتّع بنفوذ مشابه لنفوذ المفتي. ستكون تلك المنظمة قادرة على تعليم وتدريب الأئمة ليكونوا خير قادة للمجتمع المسلم المحلي- أو بالواقع من داخل المجتمعات المحلية، تأمين رواتب محترمة وأمن وظيفي، تعيين أئمة وقادة دينيين للجوامع والمدارس الدينية، مراقبة وتنظيم الأداء، توفير تدريب مستمر وبرامج التطوير المهني، تحديد موضوع ومضمون الخطب الدينية التي يتم إلقاؤها أيام الجمعة وباقي الأيام ذات الأهمية الدينية مثل شهر رمضان، وتدريب الهيئات الدينية لخدمة المجتمعات المحلية في سبيل دعم التكامل الإجتماعي والثقافي.
كما يجب على منظمة إسلامية كتلك أن يتولاها مسلم ولد وترعرع ضمن الدولة، ويتمتع بالمؤهلات الدينية الأصيلة ليستحق أن يحمل لقب المفتي- كما يجب أن يملك الوعي الإجتماعي وبعد النظر السياسي مما يؤهله لاستلام منصب بهذه الأهمية والنفوذ. بالإضافة إلى ذلك، إن منظمة إسلامية كهذه، يجب منحها سلطة ترخيص بناء المساجد، وأن تضمن أن يتمتع مدرسو التعليم الإسلامي بمواصفات محددة، ولعب دور في تحديد المؤسسات الإسلامية العالمية المعتدلة التي تلتقي مع إهتمامات المجتمع المحلي، ويقتضي تمتعها بحق القيام بأنشطة خيرية أو دينية في البلد.
بإختصار، ستسهّل المنظمة الإسلامية المقترحة أعمال دمج المهاجرين المسلمين الجدد في المجتمع، بالإضافة إلى لعب دور المتراس بوجه التعصب الديني والعزلة الإجتماعية بين أفراد المجتمعات الإسلامية القائمة. قد يعتبر القضاة في الدول الغربية أن اقتراح كهذا هو تعارض للقوانين والمناهج القائمة، كالحق في حرية ممارسة الدين؛ وقد يفسّر السياسيّون- خاصة المحافظون- بشكل خاطىء إنشاء هذه المنظمة كزحف للأسلمة. لكن، من المهم الأخذ بعين الإعتبار أهمية ارتباط المجتمع الإسلامي بالسلطات الدينية وفهم كيف ولماذا هذه المجتمعات محرومة. لا يجب أن يحصل المسلمون في فرنسا أو ألمانيا على النصائح من أئمة وصلوا لتوهم من باكستان أو تركيا أو سوريا، بل من أئمة ترعرعوا وتعلّموا في الغرب.
تتطلب البيئة الدولية الناشئة تدابير استثنائية يتعيّن اتخاذها من قبل الحكومات لمعالجة مجموعة كبيرة من القضايا. إن هزيمة التطرّف العنيف وما يعادله من تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة الذين يستطيعون غسل الأدمغة الشابة والناضجة من على بعد أميال، تحتاج لسياسات رشيدة ومستدامة- يجب ألا تستهدف المسلمين العاديين، كمنع عبور الحدود وما شابه، بل تسعى إلى التعاون معهم لمعالجة الإخفاقات المنهجية التي تسيطر على الجاليات المسلمة في الغرب عبر قيادات قادرة ومجهزة. وفي هذه الحالة، إن الفشل قد يكون الفرصة الأخيرة قبل الموت الوشيك للتعددية الثقافية مع مزيج خطير من التحديات الاجتماعية الوشيكة التي ستدفع أوروبا والغرب الواسع إلى الهاوية الاجتماعية والسياسية. علاوة على ذلك، يجب أن يتذكر القادة الغرب دائماً أن الحرب على الإرهاب يجب أن يتم ربحها عقائدياً من أجل تحقيق مكاسب عسكرية.
*الرئيس التنفيذي – إينغما