رياض قهوجي
توحي المناورات الصينية المستمرة حول تايوان بأن بكين في صدد إيجاد واقع جديد متعلق بمستقبل الجزيرة التي تعتبرها جزءاً من أراضيها. فالمناورات بالذخيرة الحية لم تتوقف رغم انتهاء زيارة رئيسة الكونغرس الأميركي نانسي بيلوسي. كما أن منطقة عمليات هذه المناورات تقترب شيئاً فشيئاً من شواطئ تايوان وأجوائها. زاد هذا الأمر من توقعات المراقبين في أن الصين قد تقدم على فرض حصار غير معلن على الجزيرة عبر تمديد فترة هذه المناورات الى أمد غير محدد ما سيمنع السفن التجارية من دخول المناطق الاقتصادية للجزيرة، وربما يؤثر في حركة مطارها الدولي. هذا التحرك سيشكل ضغطاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً على تايوان التي قد تجد نفسها مجبرة على التفاوض مع بكين لإيجاد حل للأزمة قد يكون لمصلحة الصين.
هناك من يتخوف من أن يكون تمديد هذه المناورات مقدمة لعمل عسكري مفاجئ يستهدف المنشآت الحيوية والدفاعات الأساسية للجزيرة يترافق مع هجمات سيبرانية تقوّض دفاعاتها الأساسية، ويضعها في موقف ضعيف جداً يرغمها على الاستسلام. لكن خطوة كهذه تحتاج إلى حسابات دقيقة جداً كون جزء مهم من القواعد العسكرية يقع داخل تحصينات منها قاعدة تشياشان الجوية الموجودة داخل جبل والمجهزة للتعامل مع هجوم نووي. أضف الى ذلك أن تايوان قد عسكرت مجتمعها بحيث أن جميع الشبان والشابات يخضعن للخدمة الإلزامية ويستدعون في شكل دائم للتدريب. فالجزيرة التي يسكنها 23 مليون نسمة قد أعد سكانها لحرب العصابات وطبيعتها تصلح لهذا الأمر.
لقد تضاعفت قدرات الصين العسكرية بشكل كبير خلال السنوات الماضية، في حين أن تايوان لم تكن تقوم بتحديثات لقدراتها العسكرية نتيجة السياسات الأميركية المتناقضة التي كانت تحاول أن تساير بكين عبر تقليص حجم المساعدات لتايبيه. التفوق الصيني العسكري والتكنولوجي اليوم يجعلها في وضعية أفضل من قبل للتحرك عسكرياً ضد تايوان. لكن هناك خطورة الوقوع في حرب طويلة تؤدي لخسائر فادحة في أرواح مواطنين صينيين. فأي حرب بين الطرفين ستكون امتداداً للحرب الأهلية الصينية التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية بين نظام ماو تسي تونغ الشيوعي وحكومة جمهورية الصين بقيادة تشيانغ كاي تشك والتي انتهت بانتصار الحزب الشيوعي وفرار كاي تشك الى تايوان حيث أسس النظام الديموقراطي المستقل هناك والمستمر حتى هذا اليوم. وبناء عليه، فإن أي هجوم صيني على الجزيرة قد يؤدي الى اندلاع قتال عنيف يوقع عشرات آلاف القتلى من الجانبين ما يعرّض الحكومة الصينية لرد فعل سلبي من الشارع الذي يعاني من ضغوط اقتصادية نتيجة عمليات الإغلاق المتكررة لمنع انتشار جائحة كورونا.
رغم تفوق الصين العسكري الا أن الدفاعات التايوانية لا يستهان بها، وستوقع خسائر كبيرة في صفوف القوات الصينية، خصوصاً في قواتها الجوية وسفنها الحربية وفرق المشاة التي ستحاول اقتحام شواطئ الجزيرة بعد أن تنفذ عمليات إنزال جوي فيها. فجبال تايوان تشرف بشكل مباشر على سواحلها ما يجعلها ممتازة لتشكيل خطوط دفاع ضد أي عمليات إنزال بحري. وتمتلك تايوان ترسانة جيدة من مدافع الهاوتزر والصواريخ المضادة للسفن والطائرات.
الصين قد تواجه المشاكل ذاتها التي تواجهها روسيا اليوم في أوكرانيا، وتحديداً في عدم قدرتها على تحقيق سيطرة جوية تامة، وهذا طبعاً سيبطئ الهجوم الصيني ويزيد من حجم الخسائر. كما أن تايوان تملك كمية كبيرة من الأسلحة الذكية وقدرات مهمة في الحرب الإلكترونية. لكن تايوان لن تستطيع الصمود لفترة طويلة من دون دعم من أميركا وحلفائها في السلاح والمعدات. إنما إيصال هذه المساعدات قد تكون أمامه مخاطر الاشتباك المباشر بين القوات الصينية والأميركية. فأميركا تبقي قرب تايوان قوة بحرية لا يستهان بها تضم سفن إنزال ومدمرات وغواصات نووية وحاملات طائرات على متنها أكثر من 150 مقاتلة نصفها من الجيل الخامس، وهي متواجدة قرب مناطق صديقة مثل اليابان وكوريا الجنوبية توفر لها دعماً لوجستياً حيوياً.
بناء على الموقف الأميركي مما يجري في أوكرانيا وعلى خطابات القادة الأميركيين من كلا الحزبين في واشنطن حول تايوان، فإن الولايات المتحدة لن تمارس الحياد في حال إقدام الصين على أي هجوم عسكري على تايوان. بل ستعمد الى تقديم المساعدة لتايوان كما فعلت مع أوكرانيا، وعلى الأرجح لن تتأثر بالتهديدات الصينية. فبكين لا تريد الدخول في مواجهة عسكرية مع أميركا قد تؤدي الى سيناريوات ليست من مصلحتها. فهي تدرك مخاطر أي مواجهة نووية، كما تعي تفوق أميركا التكنولوجي عسكرياً. وبالتالي، تبقى احتمالات الهجوم الصيني الواسع على تايوان منخفضة في هذه المرحلة.
السيناريو الأكثر احتمالية هو تكثيف الصين لحربها النفسية على تايوان بهدف إحداث شرخ داخل المجتمع وإضعاف الحكومة الحالية. فتنفيذ مناورات عسكرية بشكل متكرر حول الجزيرة سيزيد من مستوى الخوف بين سكانها ويرفع من منسوب الجدل داخلها بين معارض لسياسات الحكومة التي تريد أن تكرّس الاستقلال التام عن بكين وبين من يؤيد فكرة الاندماج مع الصين ضمن اتفاق بين الطرفين. وكانت العلاقات بين الطرفين شهدت تحسناً كبيراً وحركة تطبيع قوية بعد انتهاء الحرب الباردة وزادت الحركة التجارية والسياحية بينهما، إلا أنها تراجعت خلال السنوات الأخيرة نتيجة تصاعد التحركات الصينية العسكرية في منطقة جنوب شرقي آسيا، وتصفية الحكومة الصينية للحركات الديموقراطية في هونغ كونغ، ووصول حكومة تايوانية تعارض أي اندماج مع الصين.
تحاول واشنطن اليوم احتواء تنامي النفوذ الصيني في آسيا، وهي تستخدم مسألة تايوان لإثارة مشاعر بكين ودفعها لخطوات عسكرية تحدث صدمة في محيطها وتدفع بدول عدة الى أحضان أميركا للاحتماء بها. فواشنطن ستستفيد من ارتفاع منسوب الخوف في المنطقة من الصين وستعمد إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أساسية مثل الهند وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند وفيتنام وسنغافورة لتوسع تحالفها الحالي الذي يضم كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا. هذه الاصطفافات ستؤثر سلبا في مشاريع الصين الاقتصادية ومنها طريق الحرير، وستقلص النمو الاقتصادي في وقت يواجه بعض المصارف الصينية صعوبة في توفير السيولة للمودعين.
بكين قد تجد نفسها في فخ أميركي محكم يضعها في حالة استنزاف ذاتي، تماماً كما تستنزف موسكو اليوم قدراتها العسكرية والاقتصادية في حرب أوكرانيا. لن يكون واقع الحال في تايوان كما كان قبل زيارة بيلوسي، وهناك خيارات عدة لبكين للتعامل مع الوضع عسكرياً أو دبلوماسياً. فهل تنساق وراء العواطف والشعارات ويعميها شغف السلطة أم تعتمد سياسة النفس الطويل المعروفة بها لتستمر في مسارها التصاعدي لتكون القوة العظمى الجديدة بعد بضع سنوات؟