كتب رياض قهوجي في النهار العربي
شهد العام 2022 تطورات كبيرة سيكون لها تأثير لا محدود في موازين القوى العالمية ومسار الأحداث خلال الأشهر والسنين المقبلة. فبلا شك كانت تداعيات حرب أوكرانيا دراماتيكية على العلاقات الدولية والأمن العالمي. فإلى جانب اعادة ساحة الحرب الى القارة الأوروبية، فإن هذه الأزمة أعادت لاعبين أساسيين غيبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وهما ألمانيا واليابان. كلا الدولتين أعلنتا عن برامج تسلح كبيرة لبناء قدرات هجومية مهمة ستؤثر في موازين القوى في القارتين الأوروبية والآسيوية خلال العقد المقبل وتعيدان إحياء مخاوف لدى بعض الدول التي شهدت تاريخياً صراعاً مع احداهما. فهما قادتا دول المحور في الحرب ضد الحلفاء وحرمتا بعد خسارتهما الحرب من امتلاك قدرات عسكرية كبيرة منعاً لتكرار ذلك. أما اليوم فهناك مباركة من أميركا والقوى الغربية لعودتهما كقوتين عسكريتين كبيرتين وفاعلتين.
هناك ثلاثة أسباب لهذا التغير في موقف الغرب، وأولها التغير الايديولوجي في الانقسام الدولي. وبحسب باحثين ومحللين في الغرب فإن العالم مقسوم اليوم بين القوى الديموقراطية – الليبرالية والقوى الأوتوقراطية (الأنظمة الديكتاتورية). فالأولى تضم الدول التي تعتمد النظام الديموقراطي والرأسمالي الحر (السوق الحرة) والثانية تضم الدول التي تحكمها أنظمة شمولية لا توجد فيها انتخابات ديموقراطية حرة ولا يوجد فيها نظام رأسمالي يعتمد السوق الحرة من سيطرة النظام أو قوى السلطة الحاكمة. وضمن هذا التعريف فهي ترى ظهور قوى محور جديدة تضم روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، ستكون في صراع مع قوى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ويضم دول حلف الناتو مع أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان.
السبب الثاني هو الحاجة الى تعزيز القدرات العسكرية والتكنولوجية لمواجهة القدرات العسكرية المتنامية للطرف الآخر، وتحديداً في مجال بناء الصواريخ الباليستية والجوالة والطائرات المسيّرة وتطويرها. فلدى كل من ألمانيا واليابان صناعات دفاعية محلية مهمة بحاجة الى استثمار من قبل حكوماتها لتستطيع أن تبني منظومات دفاعية حديثة وتوسيع جيوشها وقدراتها الهجومية ما يزيد من عامل الردع لديها. ولقد أعلنت كل منهما عن برامج تسلح بعشرات مليارات الدولارات للسنوات المقبلة ستجعلهما تمتلكان قدرات هجومية متقدمة ستؤثر في موازين القوى العالمية. كما أن برنامجيهما للتسلح سيضخان أموالاً كبيرة في سوق السلاح الأميركية ما سيوفر سيولة لبرامج الأبحاث والتطوير تمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في تفوقها العسكري التكنولوجي عالمياً.
السبب الثالث هو البعد الجغرافي للصراع العالمي الحالي. فدول المحور تمتد من أوروبا عبر الشرق الأوسط نحو شرق آسيا، وبالتالي فإن أميركا تريد أن تعزز قدرات دول التحالف في آسيا من دون اضطرارها لبناء المزيد من السفن وحاملات الطائرات في جنوب شرقي آسيا ومضاعفة عدد جنودها هناك. وبالتالي، فإن إعطاء الضوء الأخضر لليابان لبناء قدراتها العسكرية الهجومية سيوفر قدرات عسكرية نوعية مهمة تساعد كوريا الجنوبية وأستراليا في ايجاد توازن عسكري مهم مقابل الصين في المنطقة. كما أن صعود ألمانيا كقوة عسكرية سيشكل عاملاً مهماً في الحد من أي توسع لروسيا في أوروبا ويثبت تفوق القوى الديموقراطية هناك. فالصراع اليوم لا يقتصر على الساحة الأوروبية بل هو صراع عالمي قد يشبهه البعض بحرب عالمية ثالثة، إذ يشمل منطقة جنوب شرقي آسيا وحتى الشرق الأوسط – حيث مناطق النفوذ الإيراني.
وفي خضم هذا الانقسام الايديولوجي واحتدام الصراع بين المعسكرين ستزداد الضغوط على الدول غير المنتمية الى أي منهما لتعلن أقله تأييدها لأحدهما. وسيبدأ هذا الصراع من محاولة تصنيف الهوية السياسية والثقافية لهذه الدول والتي على أساسها قد تقرر حكومات القوى المتصارعة كيف سترسم سياستها الخارجية والأمنية اتجاهها. فهل ستستمر في دعمها دبلوماسياً في المحافل الدولية وهل ستمدها بأسلحة حديثة وهل ستدعمها أم تتعامل معها اقتصادياً؟
هذه كلها أسئلة ستتحدد أجوبتها بناء على مقاييس هذه القوى رغم أن بعضها (مثل الصين) يصر على أنه لن يتدخل في السياسات الداخلية لهذه الدول. فبعض الباحثين والمسؤولين في الغرب بدأ يضع علامات استفهام على طبيعة الأنظمة الملكية، فهل يعتبرها ضمن الأنظمة الشمولية – الديكتاتورية أم أنها تشكل حالة استثنائية؟ ماذا عن الجمهوريات التي تلعب فيها المؤسسة العسكرية دوراً أساسياً في الحكم؟ هناك عدد مهم من دول كهذه تعتبر اليوم حليفة أو مقربة لأميركا وغالبيتها يتجنب الانجرار الى سياسة المحاور الدولية وتؤثر الحياد. فهل يمكن لسياسة الحياد هذه أن تستمر طويلاً؟
كما أن هناك قوى ديموقراطية (بعضها نووية) لا تزال تعتمد سياسة عدم انحياز حتى الآن، وتحديداً الهند وباكستان وإسرائيل والبرازيل وجنوب افريقيا. فالهند لا تزال تحافظ على علاقاتها الاقتصادية والسياسية القوية مع روسيا رغم قرارها إلغاء صفقات سلاح مهمة معها وتحولها للسوق الأوروبية مع تعزيز صناعاتها الدفاعية المحلية. فالهند تعتبر أكبر دولة ديموقراطية في العالم وانضمامها للتحالف الغربي عسكرياً سيشكل ضربة كبيرة لقوى المحور الجديدة وتحديداً الصين التي هي في نزاع حدودي معها في منطقة جبال التيبت، يؤدي بين الحين والآخر الى اشتباكات عسكرية. ومن المحتمل أن يدفع انضمام الهند الى الحلف الغربي الى انضمام باكستان – عدوها اللدود – الى دول المحور حيث لن يشكل ذلك مفاجأة للمراقبين نظراً الى تنامي التعاون العسكري في العقد الأخير بين إسلام آباد وبكين.
وفي ما يخص البرازيل والتي تتعاطف مع الغرب، فإن قارة أميركا الجنوبية حيث توجد هي بقيت الى حد بعيد خارج الحرب العالمية الثانية ومن المتوقع أن تبقى كذلك في الصراع الحالي، رغم وجود أطراف مقربة من دول المحور مثل فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا. كما أن جنوب أفريقيا منشغلة في مشاكلها الداخلية وشؤون القارة الأفريقية ومن المرجح أن لا تهتم كثيراً في دعم أي من المحورين، بخاصة اذا لم تتبن الصين سياسة توسعية تزيد من نفوذها العسكري داخل القارة بعدما أسست موطئ قدم لها عبر القاعدة البحرية في جيبوتي.
أما إسرائيل فهي تعتمد على المساعدات الأميركية وثقافتها قريبة جداً من الغرب، ولكن أمن حدودها الشمالية، وتحديداً في منطقة الجولان يعتمد على استمرار تعاونها الأمني مع روسيا التي تملك وجوداً عسكرياً مؤثراً في سوريا. وبالتالي، فهي ترفض حتى اليوم تقديم أي دعم عسكري لأوكرانيا في حربها مع روسيا. كما أنها تحافظ على علاقات اقتصادية جيدة مع الصين. لكنها تواجه أسئلة مصيرية اليوم في طريقة التعامل مع إيران بخاصة اذا ما أقدمت الأخيرة على تخصيب اليورانيوم الى مستوى 90 في المئة ما يمكنها من تصنيع أسلحة نووية. فهل ستقدم على عمل عسكري كما هددت سابقاً، وكيف لها أن تفعل ذلك من دون الدعم الأميركي الغربي؟
طبعاً، يمكن الاستنتاج اليوم أنه ونظراً الى طبيعة انقسام المعسكرين، فأي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران قد يؤدي الى مواجهة عسكرية غربية مع إيران، وقد تتوسع بسرعة لتضم روسيا التي طورت أخيراً علاقاتها الدفاعية مع طهران لدعم الجهد الحربي في أوكرانيا. وعليه، فإن صراع النفوذ العالمي مع ظهور شكل معسكري الصراع وعودة قوى عسكرية قديمة الى الساحة سيزيد من حدة التوتر في ساحات المواجهة الثلاث: أوروبا والخليج العربي وجنوب-شرقي آسيا. وعليه، ستشهد مناطق النفوذ الايراني وربما إيران ذاتها تطورات كبيرة عام 2023، وقد يكون بعضها عنيفاً جداً.