كتب رياض قهوجي في النهار العربي
كثرت في الآونة الأخيرة المقالات والتحليلات الصادرة في إسرائيل عمّن يوصفون بأنهم محررون عسكريون ينقلون كلاماً عن قادة عسكريين ومسؤولين استخباريين، عن تهديد كبير يتعاظم من قبل إيران وحليفها الأساسي في المنطقة “حزب الله”. وتتحدث هذه المقالات عن سيناريوات لاستعداد الحزب لاحتلال مستعمرات في الجليل، بالإضافة إلى قصف صاروخي كثيف بألفي صاروخ يومياً من جهات عدة. وتتحدث هذه التقارير عن مناورات مكثفة للقوات الإسرائيلية استعداداً لهذه الحرب التي يبدو، بحسب الكتاب الإسرائيليين، أن اندلاعها هو مسألة وقت وقد تكون قريبة بحكم تقدم برنامج إيران النووي.
طبعاً، قد يجد البعض في هذه المقالات دليلاً إلى خوف إسرائيل من تنامي قوة محور الممانعة، فيما قد يجد البعض الآخر فيها دليلاً إلى حتمية الحرب. كما قد تكون تحضيراً للرأي العام الداخلي الإسرائيلي لشكل الحرب المقبلة وضرورة الاستعداد لها نفسياً وعملياتياً. وهناك من يرى فيها رسائل إلى أميركا وقوى دولية أخرى عن جدية استعداد إسرائيل للحرب من أجل أخذ مصالحها بالاعتبار، بخاصة في المحادثات مع إيران التي يحكى أن الأميركيين منخرطون فيها بوساطة عمانية. ويجب ألا نفوت نظرية استخدام هذه المقالات والتسريبات لرفع منسوب الردع الإسرائيلي بوجه محور الممانعة الذي قد يشعر أن إسرائيل باتت ضعيفة وهزيمتها باتت سهلة.
الأكيد هو أن أياً من هذه المقالات ما كان لينشر بلا موافقة السلطات الإسرائيلية التي تحظر نشر أي شيء متعلق بالجيش الإسرائيلي وخططه وتدريباته من دون تصريح مسبق. والأكثر من ذلك أن أياً من الضباط الإسرائيليين، المتقاعدين أو في الخدمة، لا يمكنهم التكلم حول مواضيع متعلقة بالأمن القومي من دون تصريح مسبق. فرغم كل ما يقال عن الحريات في إسرائيل، فإن الرقابة العسكرية على كل ما يمس بالأمن القومي وتحركات الجيش الإسرائيلي قوية ومستمرة ولا تستثني أحداً من الصحافيين المقيمين في إسرائيل، إن كانوا مواطنين أو أجانب.
وبناءً عليه، فإن هذه المقالات والتقارير ما هي إلا جزء من استراتيجية إسرائيلية لخدمة أهداف عسكرية وقومية، ويجب أخذ كل الاحتمالات بالاعتبار عند محاولة تحليلها والقراءة بين السطور. وأهم شيء هو مقاربة الوضع بواقعية مطلقة ضمن فهم للعقيدة العسكرية الإسرائيلية والتطورات المتسارعة محلياً وإقليمياً ودولياً. وأول ما يجب القيام به في مقاربة هذا الموضوع هو تحديد الأسباب التي قد تؤدي إلى نشوب الحرب.
بحسب العقيدة العسكرية الإسرائيلية، هناك نوعان من الحروب: حرب بالإرادة أو اختيارية، أي تقدم إسرائيل على شنها بهدف استباق تهديد استراتيجي أو لمنع الخصم من تحقيق تفوق عسكري نوعي عليها. وأمثلة على حروب اختيارية أو استباقية شنتها إسرائيل كانت حرب 1967 واجتياح لبنان عام 1982. النوع الثاني هو حرب غير اختيارية، أي تجبر إسرائيل على خوضها دفاعاً عن النفس بعد تعرضها لهجوم من الخارج، ومن الأمثلة على ذلك حرب 1973 وحرب تموز 2006.
لا يبدو حالياً أن إيران أو “حزب الله” بصدد شن هجوم على إسرائيل وإعطاء مبرر لتدخل عسكري أميركي – غربي كبير ضدها. وخير دليل إلى ذلك هو عدم رد إيران و”حزب الله” على الغارات التي تشنها إسرائيل على مواقع تابعة لهما في سوريا. وتبقي إيران المواجهة مع إسرائيل في حرب ظل استخبارية بينهما في مياه الخليج العربي، وتكون بالوكالة أحياناً عبر الفصائل الفلسطينية في غزة. أما إمكان أن تبدأ إسرائيل الحرب بشنها غارات على المنشآت النووية الإيرانية، فهو وارد إنما يترافق مع مخاطر عدة ويتضمن صعوبة تنفيذ هجوم كهذا بقدراتها الذاتية فقط، بالإضافة إلى أن إسرائيل قد تجد نفسها وحيدة وبلا دعم قوي أميركي بسبب انشغال واشنطن بحرب أوكرانيا والتمدد الصيني وأمور عدة أخرى. كما أن إسرائيل تعلم أن حرباً كهذه يصعب تقدير مدتها وجعلها سريعة، لأن لا ضمانة بأن إيران ستوقف عمليات القصف الصاروخي بعد فترة وجيزة ولن تعمد إلى حرب استنزاف طويلة.
ما هي خيارات إسرائيل إذا ما ردت إيران بقصف صاروخي مركز يترافق مع عمليات برية من قبل حلفائها في جنوب لبنان وسوريا، ودام ذلك لفترة أطول مما تستطيع إسرائيل تحملها؟ هل تلوّح حينها باستخدام سلاحها النووي؟ وهل تفعل ذلك علناً أم عبر قنوات دبلوماسية موثوقة؟ وماذا تفعل إن لم تستجب إيران لتهديدات إسرائيل النووية؟ هذه أسئلة من البديهي أن يناقشها قادة إسرائيل قبل الشروع بأي مغامرة عسكرية قد يقدمون عليها مستقبلاً.
عقيدة إسرائيل العسكرية والمعتمدة منذ تأسيسها هي منع أي من خصومها من امتلاك القدرة على تهديد وجودها، وتحديداً عبر الحصول على سلاح نووي. وبناءً عليه، فإن إسرائيل أمام خيارين: إما أخذ المبادرة العسكرية وضرب المنشآت النووية الإيرانية، أو تعديل عقيدتها لتتعايش مع إيران كقوة نووية محتملة مع ما يحمله ذلك من تبعات.
وتمكنت إسرائيل بمساعدة حلفائها في الغرب من تطبيق هذه العقيدة بنجاح. لكن الأمور اليوم تبدو مختلفة مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وهذا قد يدفع بالقيادات الإسرائيلية إلى مراجعة سياستها الدفاعية لتحقيق توازن رعب مع إيران وحلفائها عوضاً عن السعي إلى الحفاظ على التفوق العسكري واحتكار السلاح النووي.
في المحصّلة، يبدو أن هذه التسريبات والمقالات الإسرائيلية والمترافقة مع المناورات هي على الأرجح حرب نفسية لردع إيران وحلفائها، ولحث الأميركيين على أن يكونوا أكثر تشدداً في محادثاتهم مع الإيرانيين للتأكد من تجميد برنامجهم النووي، بخاصة موضوع تخصيب اليورانيوم إلى مستويات عالية وبكميات كبيرة. وستكون الحرب الخيار الأخير لإسرائيل نظراً إلى حجم المخاطرة التي ستأخذها بدخولها مواجهة عسكرية مع خصم مثل إيران من دون تنسيق وتعاون وثيق مع الولايات المتحدة.
فالانتصار في الحروب لم يعد سهلاً لإسرائيل كما كان في الماضي، نظراً إلى التقدم التكنولوجي الذي أثر في شكل الحرب. فتكنولوجيا تصنيع الصواريخ على أنواعها والمسيرات الهجومية والانتحارية باتت منتشرة، الأمر الذي سيمكن من يملكها – مثل إيران – من توجيه ضربات موجعة ضد الجبهة الداخلية للخصم، وجره إلى حرب استنزاف مكلفة جداً. ولذلك، فإن إسرائيل أمام خيارات صعبة ستؤثر على مكانتها ودورها في المنطقة، وفي الوقت عينه تؤثر على سياسات طهران المستقبلية.